بسم الله الرحمن الرحيم
بعد
حمد الله جل جلاله، وتقدس عزه وكماله، والصلاة والسلام على الفاتح لمغلقات الوجود،
سيدنا ومولانا محمد بحر الكرم والجود، وعلى آله الغر الميامين، وأصحابه الهداة
المهتدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
إلى
حضرة من أضاءت بأنوار علومه الأقطار،
وتزينت بحلية آدابه جملة المسترشدين الأخيار، القاضي الفاضل والقدوة الواصل
محبنا الأرضى السيد الحاج رزقي ذي القرنين البتاوي، لازال كوكب رفعته بالسعادة
مشرقا ضاوي، زاد الله في عمره وممده، وبارك في رزقه وذات يده..
والسلام الطيب العام مع فائق الاحترام على
جنابكم ومن لاذ بكم، وحضر مجلسكم (المعافاة ) السعيد وانتسب إليكم ، سلاما يفوح من
رياض المحبة عبير أزهاره، واحتراما يلوح من سماء القلوب لامع أنواره.
أما
بعد، فقد سألتني أيها الأخ الكريم، لازلت محفوظا بعين التوقير والتكريم ، عن مسألة
أذيعت وأشيعت بين الناس يروجها بعض المتنطعين، من لا قدم راسخ له في الدين، وهي مسألة من يسبح بيده
اليسرى وما حكم ذلك، فأجبتك أيها الحبيب الوامق، والعارف الصادق وإن كنت لست أهلا
للجواب، ولا ممن يحسن السلوك في ميادين الخطاب، وبالله تعالى التوفيق، وهو الهادي بمنه إلى أقوم الطريق.
اعلم
أرشدني الله وإياكم أيها العابد الناسك، إلى أوضح المسالك، ووقانا وإياكم أهواء
التشدد والتنطع المفضي إلى المهالك، أن
هذه المسألة أثيرت في هذه الآونة ، حتى عندنا بالمغرب الأقصى وصار يروجها من لا
خلاق له بنشرها في الملصقات بالمساجد، وما ذالك إلا لعدم فهم مقاصد الشريعة
السمحاء، وعدم التفقه في الدين ، وسلوك نهج سيد المرسلين، والاقتداء بحملة شريعته
العارفين، وهي شبهة علقت بعقول أهل الدعاوي، وتبعهم فيها كل ناعق غاوي، من غير نص
صريح أو قياس يعتد به، حتى شوشوا على عامة المسلمين، وفتحوا باب الوسوسة للشيطان اللعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله
العلي العظيم.
وقد
جاء عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا
ولا تنفِّروا)) متفق عليه. وعن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا
وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة.
فهذه
المسألة ونظائرها من باب التشديد في الدين والتضييق ، الذي لا يليق، ( من شد شد
إلى نار القطيعة) فاللهم إنا نبرأ لك من التضييق على هذه الأمة المحمدية الخيرية
المرحومة ذات الوسطية والاعتدال، التي رفع
الله عنها الحرج وخصها بكريم الخصال، بسبب نبيها عين إنسان الكمال صلى الله عليه
وسلم آمين.
فمن
المعلوم أن من السنة العقد بالأنامل في حالة الذكر والتسبيح والتحميد والتهليل كالباقيات
الصالحات فإنهن مستنطقات، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في حديث مرفوع: " يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ ، عَلَيْكُنَّ
بِالتَّهْلِيلِ ، وَالتَّسْبِيحِ ، وَالتَّقْدِيسِ ، وَاعْقِدْنَ بِالأَنَامِلِ ،
فَإِنَّهُنَّ مُسْتَنْطَقَاتٌ وَمَسْئُولاتٌ، وَلا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ
الرَّحْمَةَ. فلم يرد
عن الشارع النهي بالعقد باليسرى، وإنما مستند هؤلاء ما روى عبد الله بن عمرو رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح ، قال ابن قدامة: بيمينه .
وكذلك
أن اليسرى تستعمل فقط لإزالة النجاسات، فتحرجوا باستعمالها في الذكر ونحوه من
أنواع الطاعات، وهب أننا سلمنا لهم ذلك جدلا ووافقناهم عليه، فمن باب الأولى عدم
استعمالها عند تكبيرة الإحرام مثلا، بل الإشارة باليمين فقط، وكذلك الدعاء الذي هو
مخ العبادة لزم رفع اليمنى فقط وهذا مخل بأدب الدعاء، فإننا نرفع كفي الفاقة
والافتقار، ونبسط اليدين بحالة الذلة والانكسار، استمطارا لرحمة ربنا وبركاته، وطمعا في سعة فضله ومرضاته، قال عليه
الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم عن سلمان رضي الله عنه (( إن الله تعالى حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل
إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين )) وقال صلى الله عليه وسلم : ((سلوا الله ببطون
أكفكم ولا تسألوه بطهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم)) رواه أبو داود والبيهقي
عن ابن عباس رضي الله عنهما.
فاللسان
والقلب هما اللذان يشتغلان بالذكر حيث أن اللسان يتلفظ بألفاظه النورانية، والقلب
يستشعر معانيه الذوقية، وأما العقد بالأنامل فهي وسيلة لضبط العدد المطالب به
شرعا، إذ السر في العدد، وهو أصل أصيل في
مشروعية اتخاذ السبحة و حديث إعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات دليل على جواز
العقد بالسبحة لأن تحريك السبحة والعقد يكون بالأنامل أيضا وهذا ذكره ابن علان في
شرح أذكار النووي..
وإني
أسوق إليكم واقعة ذكرها العلامة العارف بالله القاضي سيدي أحمد سكيرج رضي الله عنه
في كتابه كشف الحجاب، عند ترجمته للمقدم سيدي محمد بن حرز الله وهي أن هذا السيد المذكور شد الرحلة إلى زيارة سيدنا
مولانا الشيخ احمد التجاني رضي الله عنه وأتاه ليسأله عن ثلاثة أشياء: عن الحجامة
بالليل، وأخذ السبحة باليد اليسرى، وعن سلطان الحق، فاتفق أن قدم لدار سيدنا رضي
الله عنه ليلا فاستأذن الدخول عليه فأذن له فبينما هو داخل قبل اجتماعه بسيدنا رضي
الله عنه إذ سمعه يقول: ائتوني بالحجام ليحجم لي فقال صاحب الترجمة هذا جواب
المسألة الأولى من مسائلي . فلما دخل للموضع الذي فيه سيدنا رضي الله عنه وجده آخذا سبحته بيده اليسرى وهو يذكر بها فقال
في نفسه هذا جواب المسألة الثانية. ثم لما استقر به المجلس بعد إعطاء مرتبة سيدنا
رضي الله عنه حقها صار سيدنا رضي الله عنه يتكلم عن الإمام المهدي وما يفعله
بالمخالفين للشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية إلى أن قال إذا
جاء سلطان الحق يجمع العلماء في صرة ويقطعهم مرة، فأخذ الجواب عم مسائله الثلاث من
غير سؤال سيدنا رضي الله عنه انتهى.
وهذا
من باب كشف سيدنا رضي الله عنه ، حيث أجاب السائل عن مسائله بلسان حاله ومقاله، فأنت ترى يا أخي أن سيدنا
رضي الله عنه على قدره ومرتبته في الولاية والشريعة والرسوخ واليقين، الذي لا يعرف
الهوادة ولا التراخي في أمر السنة والدين،
قد أمسك السبحة بيده اليسرى مشتغلا
بالذكر بها، رفعا للحرج والتضييق، وتوسيعا لدائرة
الرحمة على التحقيق، فيكفينا عمل سيدنا الشيخ الذي هو القدوة والأسوة
الحسنة وعمله وسلوكه وأخلاقه كلها حجج وبرهان، وفي هذا كفاية لكل معتبر من الإخوان.
وبالجملة
فلا حرج ولا كراهة من عقد الأصابع حالة الذكر باليد اليمنى واليسرى، واتخاذ السبحة
بهما إذا تعبت اليمنى .
وأزيدك
أيها الأخ الصادق أنه ينبغي للمؤمن العارف
بربه أن يعبد ربه بسائر جوارحه وأعضائه بل يتبرأ على سبيل الذوق من أي شعرة هي
غافلة عن ذكر الله تعالى خالقها وموجدها، وقد ذكر العارف بالله القطب شيخ
شيوخنا الحاج الأحسن البعقيلي رضي الله
عنه وعنا به في بعض مشاهده التي نقلتها من كناش تلميذه المقدم البركة الجليل
والعلامة النبيل الحاج الطيب الجراري رحمه الله ما نصه: إن الروح الإنساني يعبد
ربه بعبادة الملائكة والذات تعبد ربها بما يعبده الأشجار والأحجار والأرض، ومن
صنيع لطف الله أن ذات العبد من حيث ما هو هو فيه من الشعر مائة ألف وستون ألف شعرة
وكل شعرة تعبد الله وتسبحه بهذا اللفظ وهو سبحان الملك القدوس ويا من اظهر الجميل
انتهى .
فتأمل
رعاك الله إلى هذا الكلام العالي النفس المشرق المعاني البليغ العبارة، الذي يملك
القلوب ويسترق الأفهام بلطائف الإشارة، ما يزيل الشبهات واللبس عمن تحرج التسبيح
والذكر بأصابع اليد اليسرى والله اعلم.
أما
سؤالكم عن لو كان في ذكر الوظيفة رجلان فهل يستقبلان القبلة عند ذكرها او يستقبل
بعضهم بعضا ؟ فالجواب: إذا كانوا أقل من أربعة أشخاص فلزمهم استقبال القبلة والله
ولي التوفيق والسلام.
Tidak ada komentar:
Posting Komentar