مواضع تكره فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وقال الإمام أبو الجمال محمد الطاهر
بن الحسن الكتاني، المتوفى رحمه الله تعالى نحو عام 1348 بمدينة فاس، في كتابه
الفريد: "مطالع السعادة في اقتران كلمتي الشهادة":
الفائدة التاسعة: [مواضع تكره فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم]:
عندنا مواضع تكره الصلاة فيها على النبي صلى الله عليه وسلم مع ورود الأمر بذكر الله تعالى فيها. جمعها بعضهم في بيتٍ مشيراً بالحرف الأول من كلماته إليها، فقال:
على عاتقي حَمَلْتُ ذنب جوارحي===تعبت بها، واللهُ للذنب غافر
فالعين الأولى: للعثرة. والثانية: للعطاس. والحاء: لقضاء حاجة الإنسان. والذال: للذبح. والجيم: للجماع. والتاء: للتعجب. والباء: للبيع. وزاد بعضهم: أنها تكره في الأزقة والطرقات، وأنه يستحب لها المكان الطاهر، وأن تكون على أكمل الحالات من الطهارة حساً ومعنى. وتكره أيضاً في الحمام؛ لأنه محل الأقذار والأوساخ. قلت: ويظهر - والله أعلم - تقييده بداخله دون خارجه، كالجلسة، قياساً على الصلاة المفروضة.
وعند التسمية على الطعام، ومواضع اللهو والبدع؛ كاللعب في الأعراس ونحوها، وعند الغضب؛ كأن يقال له: صلِّ على النبي. كما يفعله كثيرٌ من الجهال، وهو محرم؛ خوفاً أن يحمله الغضب على ما لا يجوز. حكاه النووي في "الأذكار" عن بعضهم، وأقره.
قال الرصّاع: "ويلحق بهذا عندي: ما يصدر من العامة في الأعراس ونحوها؛ فإنهم يشهرون أفعالهم للنظر إليها بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، مع زيادة عدم الوقار والاحترام، بل بضحكٍ ولعب".ٍ اهـ. قال الحطاب بعد نقله: "بل يذكرون ذلك بلفظٍ محرفٍ إن قصدوا معناه كفروا، فإن كثيراً من الناس يكسرون السين من السلام. نعوذ بالله من ذلك". اهـ. فهذه المواطن ونحوها مستثناةٌ من عموم ذكره صلى الله عليه وسلم حيثما ذُكر الله تعالى. والله أعلم.
وزاد بعضهم: عند إقامة الصلاة؛ فقال: "إنها عندها خلاف الأولى؛ لأن المبادرة بالصلاة أفضل".
قلت: وفيه نظرٌ من وجهين:
أحدهما: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند إقامة الصلاة لا تفوّت المبادرة بالصلاة كما هو ظاهرٌ.
ثانيهما: أن الإقامة مشتملةٌ على ذكره صلى الله عليه وسلم، والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره وسماع اسمه الشريف مطلوبة إجماعا، وإنما الخلاف: هل طلبها على جهة الوجوب؟. وهو ظاهر الأحاديث، واختاره جماعةٌ من المذاهب الأربعة كما مر. أو على جهة الاستحباب؟. وهو المشهور بتأمله.
ثم ما ذكرناه من كراهة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند التعجب؛ نص عليه سحنون وغيره من المالكية، وقال الحليمي من الشافعية: "إن الصلاة عند التعجب تقال بلا كراهة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعظم المخلوقات وأعمها". نقله الشهاب الخفاجي في شرح "الشفا"، ونقله عنه في شرح "التثبيت"، وزاد عقبه ما نصه: "ونقل الشيخ أبو الحسن المصري في شرح "الرسالة" عن شيخه الجلال السيوطي أنه: نقل قولاً بجواز الصلاة عند التعجب، ولم يسم القائل بالجواز". اهـ لفظه.
قلت: يمكن - والله أعلم - الجمع بين القولين بحمل الكراهة على: ما إذا كان التعجب من شيء مما يرجع لأمور الدنيا وأحوالها، كما هو الغالب، ويحمل القول بالجواز على التعجب مما يرجع لأمور الآخرة والتفكير في مصنوعات الله وعجائب قدرته، ونحو ذلك. بدليل قول الحليمي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعظم المخلوقات وأعمها. فتأمل ذلك. والله أعلم.
وما ذكرناه - أيضاً - من كراهة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند الذبح؛ صرح به ابن ناجي، والشيخ يوسف بن عمر، والشيخ زرّوق في شروحهم على "الرسالة"، ونص عليه في "المدونة"، ونقله الشيخ أبو الحسن الزرويلي عن ابن القاسم، ونقله القاضي عياض في "الشفا" عن ابن حبيب، وهو مذهب الأيمة الثلاثة: مالك وأبي حنيفة وأحمد رضي الله عنهم، وذهب الإمام الشافعي إلى استحبابها عنده، وقال أشهب من المالكية: "إن شاء قال بعد التسمية: صلى الله على محمد؛ لأن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ليست تسميةً مع الله سبحانه". ونقله ابن حبيب عن أصبغ عن ابن القاسم أيضاً، نقله القاضي عياض في "الشفا"، وقال بعده: "ولا ينبغي أن تجعل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه استناناً". اهـ، ونقله شارح "التثبيت".
قلت: وفي "إرشاد الساري" للإمام القسطلاني ما نصه: "وقال الشافعي فيما رويناه عنه: والتسمية في الذبيحة: بسم الله. وما زاد بعد ذلك من ذكر الله فهو خيرٌ، ولا أكره أن يقول فيها: صلى الله على محمد، بل أحب ذلك، وأحب أن يكثر الصلاة عليه؛ لأن ذكر الله والصلاة على محمدٍ عبادةٌ يؤجر عليها. وكأنه أشار إلى الرد على من كره ذلك عند الذبح، واستند إلى حديثٍ منقطع السند، تفرد به كذاب، أورده البيهقي". اهـ بلفظه.
قلت: وحديث البيهقي هذا: رواه في سننه الكبرى، والديلمي في "مسند الفردوس" بلفظ: "لا تذكروني في ثلاث مواطن: عند العطاس، وعند الذبيحة، وعند التعجب". وفي روايةٍ للبيهقي بسندٍ ضعيفٍ عن عبد الرحمن بن زيد مرسلاً: "لا تذكروني عند ثلاث: عند تسمية طعامكم، وعند الذبح، وعند العطاس".
وما ذكرناه - أيضاً - من كراهة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند العطاس: صرح به ابن ناجي، والشيخ يوسف بن عمر، وتوقف الإمام مالك رضي الله عنه في الكراهة كما في "العتبية" في سماع أبي زيد من الجامع، وكما في "القول البديع" للحافظ السخاوي، وذهب إلى استحبابها عنده: أبو موسى المديني وجماعة.
ويدل له: ما رواه الديلمي في "مسند الفردوس" بسندٍ ضعيفٍ مرفوعاً: "من عطس فقال: الحمد لله على ما كان من حال،ٍ وصلى الله على محمدٍ وأهل بيته. أخرج الله من منخره الأيسر طائراً يقول: اللهم اغفر لقائلها".
وعطس رجلٌ عند ابن عمر رضي الله عنهما، فقال له ابن عمر: "لقد بخلت؛ هلا حيث حمدت الله تعالى صليت على النبي صلى الله عليه وسلم؟". رواه البيهقي.
وروى الطبراني بسندٍ ضعيفٍ عن ابن عمر ما يخالف هذا؛ وهو: أن رجلاً عطس بجنب ابن عمر، فقال: "الحمد لله والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقال له ابن عمر: "وأنا أقول: السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس بهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول إذا عطسنا، أمرنا أن نقول: الحمد لله على كل حالٍ". نقله شارح "التثبيت"، وقال بعده ما نصه: "وكذا قال جماعة: لا تستحب، وإنما هو موضع حمد لله تعالى وحده، ولكل موطن ذكر يخصه، لا يقوم غيره مقامه". اهـ.
قلت: والحديث المتقدم عند البيهقي والديلمي شاهدٌ لذلك لولا ضعفه، والله تعالى أعلم.
لطيفة: إن قلت: لم كان ذكر الله تعالى مندوباً إليه ومرغّباً فيه في جميع الأحوال كما يدل لذلك قوله تعالى: {فاذكروا الله قياما وقعودا}..الآية. [النساء/ 103]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أذكر الله عند كل شجر وحجر". وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه"، وذلك عام إلا في الكنيف ونحوه، فيكره على المشهور. قال في "المختصر": "وبكنيف نحى ذكر الله، بخلاف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"، فقلتم بكراهتها في هذه المواطن ونحوها، فما الفرق بينهما؟، مع أنك قدمت أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر الله تعالى، وهو مما لا يتنازع فيه، فما باله مندوبٌ إليه هنالك دونها؟.
قلت: الجواب عن ذلك - والله أعلم - أن تقول: إن الفرق بينهما لمن تأمل ظاهرٌ، وذلك أن ذكر الله تعالى لما كان في معنى التضرع والابتهال إليه سبحانه، والعبد لا ينفك عن ذلك لحظةً ولا أقل منها، لما أنه فقيرٌ محتاجٌ مضطرٌ إليه تعالى مدى الأنفاس واللحظات، في جميع الأوقات والحالات؛ اغتفر له ذلك للضرورة، فضلاً منه تعالى ومنةً، وتوسعةً على عباده وعنايةً بهم ورأفةً ورحمةً، {ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمةً}. [البقرة/ 178]، ثم جازى سبحانه على ذلك بأجمل عطاء وأفضل جزاء، فقال عز من قائل: {فاذكروني أذكركم}. [البقرة/ 152].
بخلاف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن المصلي عليه صلى الله عليه وسلم وإن كان لا يستغني عن مدده صلى الله عليه وسلم لحظةً أيضاً، ولا أقل منها؛ فهو في الحقيقة قد أقيم في مرتبةٍ لو شعر بها لذاب خجلاً وحياءً، وهو أنه: جعل واسطةً بين ربه تعالى وبين نبيه صلى الله عليه وسلم، يسأل من ربه العظيم أن يصلي على نبيه الكريم، وأن يزيد في قدره ودرجاته لما يعود عليه هو، ومحبةً فيه وامتثالاً للأمر بذلك. وإلا؛ فنبيه صلى الله عليه وسلم غنيٌ بصلاة الله تعالى عليه قبل القبل إلى ما لا نهاية له عن صلاة كل أحدٍ من العالمين، من الأولين والآخرين.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فينبغي لهذا العبد الضعيف الذي هيئ لذلك ورشح له، عنايةً من الله تعالى به؛ أن يشعر نفسه بهذا المعنى حال الصلاة على حبيبه صلى الله عليه وسلم، وحينئذ؛ٍ يطلب منه - لا محالة - أن يكون على أكمل الحالات، وأجمل الهيئات: من الطهارة والنظافة، حساً ومعنىً، سيما مع ما ورد من أن الصلاة تعرض عليه صلى الله عليه وسلم باسم صاحبها عيناً وزماناً، وهيئةً ومكاناً، ولم يرد مثل ذلك في ذكر الله عز وجل. بل قال ابن رشد: "في حمد العاطس وهو يبول ذكر الله إلى الله سبحانه، فلا يتعلق به من دناءة الموضع شيء، فلا ينبغي أن يُمنع من ذكر الله تعالى على حالٍ من الأحوال، إلا بنص ليس فيه احتمال". اهـ، نقله الحطاب في شرح "المختصر"، عند قوله: "وبكنيفٍ نحى ذكر الله"، وأقره. والله أعلم.
انتهى المراد من النقل المبارك، رحم الله تعالى صاحبه ورزقه جنة الفردوس بمنه وكرمه...
الفائدة التاسعة: [مواضع تكره فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم]:
عندنا مواضع تكره الصلاة فيها على النبي صلى الله عليه وسلم مع ورود الأمر بذكر الله تعالى فيها. جمعها بعضهم في بيتٍ مشيراً بالحرف الأول من كلماته إليها، فقال:
على عاتقي حَمَلْتُ ذنب جوارحي===تعبت بها، واللهُ للذنب غافر
فالعين الأولى: للعثرة. والثانية: للعطاس. والحاء: لقضاء حاجة الإنسان. والذال: للذبح. والجيم: للجماع. والتاء: للتعجب. والباء: للبيع. وزاد بعضهم: أنها تكره في الأزقة والطرقات، وأنه يستحب لها المكان الطاهر، وأن تكون على أكمل الحالات من الطهارة حساً ومعنى. وتكره أيضاً في الحمام؛ لأنه محل الأقذار والأوساخ. قلت: ويظهر - والله أعلم - تقييده بداخله دون خارجه، كالجلسة، قياساً على الصلاة المفروضة.
وعند التسمية على الطعام، ومواضع اللهو والبدع؛ كاللعب في الأعراس ونحوها، وعند الغضب؛ كأن يقال له: صلِّ على النبي. كما يفعله كثيرٌ من الجهال، وهو محرم؛ خوفاً أن يحمله الغضب على ما لا يجوز. حكاه النووي في "الأذكار" عن بعضهم، وأقره.
قال الرصّاع: "ويلحق بهذا عندي: ما يصدر من العامة في الأعراس ونحوها؛ فإنهم يشهرون أفعالهم للنظر إليها بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، مع زيادة عدم الوقار والاحترام، بل بضحكٍ ولعب".ٍ اهـ. قال الحطاب بعد نقله: "بل يذكرون ذلك بلفظٍ محرفٍ إن قصدوا معناه كفروا، فإن كثيراً من الناس يكسرون السين من السلام. نعوذ بالله من ذلك". اهـ. فهذه المواطن ونحوها مستثناةٌ من عموم ذكره صلى الله عليه وسلم حيثما ذُكر الله تعالى. والله أعلم.
وزاد بعضهم: عند إقامة الصلاة؛ فقال: "إنها عندها خلاف الأولى؛ لأن المبادرة بالصلاة أفضل".
قلت: وفيه نظرٌ من وجهين:
أحدهما: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند إقامة الصلاة لا تفوّت المبادرة بالصلاة كما هو ظاهرٌ.
ثانيهما: أن الإقامة مشتملةٌ على ذكره صلى الله عليه وسلم، والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره وسماع اسمه الشريف مطلوبة إجماعا، وإنما الخلاف: هل طلبها على جهة الوجوب؟. وهو ظاهر الأحاديث، واختاره جماعةٌ من المذاهب الأربعة كما مر. أو على جهة الاستحباب؟. وهو المشهور بتأمله.
ثم ما ذكرناه من كراهة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند التعجب؛ نص عليه سحنون وغيره من المالكية، وقال الحليمي من الشافعية: "إن الصلاة عند التعجب تقال بلا كراهة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعظم المخلوقات وأعمها". نقله الشهاب الخفاجي في شرح "الشفا"، ونقله عنه في شرح "التثبيت"، وزاد عقبه ما نصه: "ونقل الشيخ أبو الحسن المصري في شرح "الرسالة" عن شيخه الجلال السيوطي أنه: نقل قولاً بجواز الصلاة عند التعجب، ولم يسم القائل بالجواز". اهـ لفظه.
قلت: يمكن - والله أعلم - الجمع بين القولين بحمل الكراهة على: ما إذا كان التعجب من شيء مما يرجع لأمور الدنيا وأحوالها، كما هو الغالب، ويحمل القول بالجواز على التعجب مما يرجع لأمور الآخرة والتفكير في مصنوعات الله وعجائب قدرته، ونحو ذلك. بدليل قول الحليمي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعظم المخلوقات وأعمها. فتأمل ذلك. والله أعلم.
وما ذكرناه - أيضاً - من كراهة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند الذبح؛ صرح به ابن ناجي، والشيخ يوسف بن عمر، والشيخ زرّوق في شروحهم على "الرسالة"، ونص عليه في "المدونة"، ونقله الشيخ أبو الحسن الزرويلي عن ابن القاسم، ونقله القاضي عياض في "الشفا" عن ابن حبيب، وهو مذهب الأيمة الثلاثة: مالك وأبي حنيفة وأحمد رضي الله عنهم، وذهب الإمام الشافعي إلى استحبابها عنده، وقال أشهب من المالكية: "إن شاء قال بعد التسمية: صلى الله على محمد؛ لأن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ليست تسميةً مع الله سبحانه". ونقله ابن حبيب عن أصبغ عن ابن القاسم أيضاً، نقله القاضي عياض في "الشفا"، وقال بعده: "ولا ينبغي أن تجعل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه استناناً". اهـ، ونقله شارح "التثبيت".
قلت: وفي "إرشاد الساري" للإمام القسطلاني ما نصه: "وقال الشافعي فيما رويناه عنه: والتسمية في الذبيحة: بسم الله. وما زاد بعد ذلك من ذكر الله فهو خيرٌ، ولا أكره أن يقول فيها: صلى الله على محمد، بل أحب ذلك، وأحب أن يكثر الصلاة عليه؛ لأن ذكر الله والصلاة على محمدٍ عبادةٌ يؤجر عليها. وكأنه أشار إلى الرد على من كره ذلك عند الذبح، واستند إلى حديثٍ منقطع السند، تفرد به كذاب، أورده البيهقي". اهـ بلفظه.
قلت: وحديث البيهقي هذا: رواه في سننه الكبرى، والديلمي في "مسند الفردوس" بلفظ: "لا تذكروني في ثلاث مواطن: عند العطاس، وعند الذبيحة، وعند التعجب". وفي روايةٍ للبيهقي بسندٍ ضعيفٍ عن عبد الرحمن بن زيد مرسلاً: "لا تذكروني عند ثلاث: عند تسمية طعامكم، وعند الذبح، وعند العطاس".
وما ذكرناه - أيضاً - من كراهة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند العطاس: صرح به ابن ناجي، والشيخ يوسف بن عمر، وتوقف الإمام مالك رضي الله عنه في الكراهة كما في "العتبية" في سماع أبي زيد من الجامع، وكما في "القول البديع" للحافظ السخاوي، وذهب إلى استحبابها عنده: أبو موسى المديني وجماعة.
ويدل له: ما رواه الديلمي في "مسند الفردوس" بسندٍ ضعيفٍ مرفوعاً: "من عطس فقال: الحمد لله على ما كان من حال،ٍ وصلى الله على محمدٍ وأهل بيته. أخرج الله من منخره الأيسر طائراً يقول: اللهم اغفر لقائلها".
وعطس رجلٌ عند ابن عمر رضي الله عنهما، فقال له ابن عمر: "لقد بخلت؛ هلا حيث حمدت الله تعالى صليت على النبي صلى الله عليه وسلم؟". رواه البيهقي.
وروى الطبراني بسندٍ ضعيفٍ عن ابن عمر ما يخالف هذا؛ وهو: أن رجلاً عطس بجنب ابن عمر، فقال: "الحمد لله والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقال له ابن عمر: "وأنا أقول: السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس بهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول إذا عطسنا، أمرنا أن نقول: الحمد لله على كل حالٍ". نقله شارح "التثبيت"، وقال بعده ما نصه: "وكذا قال جماعة: لا تستحب، وإنما هو موضع حمد لله تعالى وحده، ولكل موطن ذكر يخصه، لا يقوم غيره مقامه". اهـ.
قلت: والحديث المتقدم عند البيهقي والديلمي شاهدٌ لذلك لولا ضعفه، والله تعالى أعلم.
لطيفة: إن قلت: لم كان ذكر الله تعالى مندوباً إليه ومرغّباً فيه في جميع الأحوال كما يدل لذلك قوله تعالى: {فاذكروا الله قياما وقعودا}..الآية. [النساء/ 103]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أذكر الله عند كل شجر وحجر". وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه"، وذلك عام إلا في الكنيف ونحوه، فيكره على المشهور. قال في "المختصر": "وبكنيف نحى ذكر الله، بخلاف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"، فقلتم بكراهتها في هذه المواطن ونحوها، فما الفرق بينهما؟، مع أنك قدمت أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر الله تعالى، وهو مما لا يتنازع فيه، فما باله مندوبٌ إليه هنالك دونها؟.
قلت: الجواب عن ذلك - والله أعلم - أن تقول: إن الفرق بينهما لمن تأمل ظاهرٌ، وذلك أن ذكر الله تعالى لما كان في معنى التضرع والابتهال إليه سبحانه، والعبد لا ينفك عن ذلك لحظةً ولا أقل منها، لما أنه فقيرٌ محتاجٌ مضطرٌ إليه تعالى مدى الأنفاس واللحظات، في جميع الأوقات والحالات؛ اغتفر له ذلك للضرورة، فضلاً منه تعالى ومنةً، وتوسعةً على عباده وعنايةً بهم ورأفةً ورحمةً، {ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمةً}. [البقرة/ 178]، ثم جازى سبحانه على ذلك بأجمل عطاء وأفضل جزاء، فقال عز من قائل: {فاذكروني أذكركم}. [البقرة/ 152].
بخلاف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن المصلي عليه صلى الله عليه وسلم وإن كان لا يستغني عن مدده صلى الله عليه وسلم لحظةً أيضاً، ولا أقل منها؛ فهو في الحقيقة قد أقيم في مرتبةٍ لو شعر بها لذاب خجلاً وحياءً، وهو أنه: جعل واسطةً بين ربه تعالى وبين نبيه صلى الله عليه وسلم، يسأل من ربه العظيم أن يصلي على نبيه الكريم، وأن يزيد في قدره ودرجاته لما يعود عليه هو، ومحبةً فيه وامتثالاً للأمر بذلك. وإلا؛ فنبيه صلى الله عليه وسلم غنيٌ بصلاة الله تعالى عليه قبل القبل إلى ما لا نهاية له عن صلاة كل أحدٍ من العالمين، من الأولين والآخرين.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فينبغي لهذا العبد الضعيف الذي هيئ لذلك ورشح له، عنايةً من الله تعالى به؛ أن يشعر نفسه بهذا المعنى حال الصلاة على حبيبه صلى الله عليه وسلم، وحينئذ؛ٍ يطلب منه - لا محالة - أن يكون على أكمل الحالات، وأجمل الهيئات: من الطهارة والنظافة، حساً ومعنىً، سيما مع ما ورد من أن الصلاة تعرض عليه صلى الله عليه وسلم باسم صاحبها عيناً وزماناً، وهيئةً ومكاناً، ولم يرد مثل ذلك في ذكر الله عز وجل. بل قال ابن رشد: "في حمد العاطس وهو يبول ذكر الله إلى الله سبحانه، فلا يتعلق به من دناءة الموضع شيء، فلا ينبغي أن يُمنع من ذكر الله تعالى على حالٍ من الأحوال، إلا بنص ليس فيه احتمال". اهـ، نقله الحطاب في شرح "المختصر"، عند قوله: "وبكنيفٍ نحى ذكر الله"، وأقره. والله أعلم.
انتهى المراد من النقل المبارك، رحم الله تعالى صاحبه ورزقه جنة الفردوس بمنه وكرمه...
اللهم صل
على عين الرحمة التي تفجرت منها ينابيع رحمتك، ونورك الذي أضفته إلى نفسك، وكرمته
تكريما لحكمتك، وشرفته بما أطلعته على مكنون غيبك، ورفعت له أعلى الدرجات في أعلى
جنتك، وجعلته خاتما لأنبيائك ورسلك
H. Rizqi Zulqornain al-batawiy
Tidak ada komentar:
Posting Komentar